فصل: تَنْبِيهٌ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فائدة: عن الجويني في الفرق بين الإتيان والإعطاء:

قَالَ: الْجُوَيْنِيُّ لَا يَكَادُ اللُّغَوِيُّونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْإِعْطَاءِ وَالْإِتْيَانِ وَظَهَرَ لِي بَيْنَهُمَا فَرْقٌ انْبَنَى عَلَيْهِ بَلَاغَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ أَنَّ الْإِتْيَانَ أَقْوَى مِنَ الْإِعْطَاءِ فِي إِثْبَاتِ مَفْعُولِهِ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ لَهُ مُطَاوِعٌ يُقَالُ: أَعْطَانِي فَعَطَوْتُ ولا يقال في الإتيان أَتَانِي فَأَتَيْتُ وَإِنَّمَا يُقَالُ: آتَانِي فَأَخَذْتُ وَالْفِعْلُ الَّذِي لَهُ مُطَاوِعٌ أَضْعَفُ فِي إِثْبَاتِ مَفْعُولِهِ مِنَ الَّذِي لَا مُطَاوِعَ لَهُ لِأَنَّكَ تَقُولُ قَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْفَاعِلِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمَحَلِّ لَوْلَاهُ لَمَا ثَبَتَ الْمَفْعُولُ وَلِهَذَا يَصِحُّ قَطَعْتُهُ فَمَا انْقَطَعَ وَلَا يَصِحُّ فِيمَا لَا مُطَاوِعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبْتُهُ فَانْضَرَبَ أَوْ مَا انْضَرَبَ وَلَا قَتَلْتُهُ فَانْقَتَلَ أَوْ مَا انْقَتَلَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْفَاعِلِ ثَبَتَ لَهَا الْمَفْعُولُ فِي الْمَحَلِّ وَالْفَاعِلُ مُسْتَقِلٌّ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا مُطَاوِعَ لَهَا فَالْإِيتَاءُ إِذَنْ أَقْوَى مِنَ الْإِعْطَاءِ.
قَالَ: وَقَدْ تَفَكَّرْتُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُ ذَلِكَ مُرَاعًى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الملك {تؤتي الملك من تشاء} لِأَنَّ الْمُلْكَ شَيْءٌ عَظِيمٌ لَا يُعْطِيهِ إِلَّا مَنْ لَهُ قُوَّةٌ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُلْكِ أَثْبَتُ مِنَ الْمِلْكِ فِي الْمَالِكِ فَإِنَّ الْمَلِكَ لَا يَخْرُجُ الْمُلْكُ مِنْ يَدِهِ وَأَمَّا الْمَالِكُ فَيُخْرِجُهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} لِأَنَّ الْحِكْمَةَ إِذَا ثَبَتَتْ فِي الْمَحَلِّ دَامَتْ.
وقال: {آتيناك سبعا من المثاني} لِعِظَمِ الْقُرْآنِ وَشَأْنِهِ.
وَقَالَ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ يَرِدُونَ عَلَى الْحَوْضِ وُرُودَ النَّازِلِ عَلَى الْمَاءِ وَيَرْتَحِلُونَ إِلَى مَنَازِلِ الْعِزِّ وَالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ فِي الْجِنَانِ وَالْحَوْضُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ عِنْدَ عَطَشِ الْأَكْبَادِ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَقَامِ الْكَرِيمِ فَقَالَ فِيهِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} لِأَنَّهُ يَتْرُكُ ذَلِكَ عَنْ قُرْبٍ وَيَنْتَقِلُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ.
وَقَالَ: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خلقه} لأن من الأشياء ماله وُجُودٌ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِلَفْظِ الْإِعْطَاءِ وَقَالَ {لسوف يعطيك ربك فترضى} لِأَنَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا يُرْضِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُهُ وَيَنْتَقِلُ بِهِ مِنْ كُلِّ الرِّضَا إِلَى أَعْظَمِ مَا كَانَ يَرْجُو مِنْهُ لَا بَلْ حَالُ أُمَّتِهِ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: {يُعْطِيكَ رَبُّكَ} فِيهِ بِشَارَةٌ.
وَقَالَ: {حَتَّى يُعْطُوا الجزية عن يد} لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى قَبُولٍ مِنَّا وَهُمْ لَا يُؤْتُونَ إِيتَاءً عَنْ طِيبِ قَلْبٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ كُرْهٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِعْطَاؤُهُ لِلزَّكَاةِ بِقُوَّةٍ لَا يَكُونُ كَإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ.
فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ اللَّطِيفَةِ الْمُوقِفَةِ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ الْكِتَابِ.

.قَاعِدَةٌ فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ:

اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامًا لَا يَلِيقُ بِالْآخَرِ.
فَأَمَّا التَّعْرِيفُ فَلَهُ أَسْبَابٌ:
الْأَوَّلُ: الْإِشَارَةُ إِلَى مَعْهُودٍ خَارِجِيٍّ كقوله تعالى: {بكل ساحر عليم فجمع السحرة}، عَلَى قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ فَإِنَّهُ أُشِيرَ بِالسَّحَرَةِ إِلَى سَاحِرٍ مَذْكُورٍ وَقوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رسولا فعصى فرعون الرسول} وَأَغْرَبَ ابْنُ الْخَشَّابِ فَجَعَلَهَا لِلْجِنْسِ فَقَالَ: لِأَنَّ مَنْ عَصَى رَسُولًا فَقَدْ عَصَى سَائِرَ الرُّسُلِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ تَقَدُّمَ ذِكْرِهِ وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء} لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النَّاسَ الَّذِينَ آمَنُوا سفهاء.
وقوله: {وليس الذكر كالأنثى} أَيِ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبَتْهُ كَالْأُنْثَى الَّتِي وُهِبَتْ لَهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذَا لِلْخَارِجِيِّ لِمَعْنَى الذَّكَرِ فِي قَوْلِهِا: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بطني محررا} وَمَعْنَى الْأُنْثَى فِي قَوْلِهِا {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}.
الثَّانِي: لِمَعْهُودٍ ذِهْنِيٍّ أَيْ فِي ذِهْنِ مُخَاطِبِكَ كقوله تعالى {إذ هما في الغار} {إذ يبايعونك تحت الشجرة} وَإِمَّا حُضُورِيٍّ نَحْوُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فَإِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ.
الثَّالِثُ: الْجِنْسُ وَهِيَ فِيهِ عَلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: أَنْ يَقْصِدَ الْمُبَالَغَةَ فِي الْخَبَرِ فَيُقْصَرَ جِنْسُ الْمَعْنَى عَلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ نَحْوُ زَيْدٌ الرَّجُلُ أَيِ الْكَامِلُ فِي الرُّجُولِيَّةِ وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا مِنْ ذَلِكَ.
وَثَانِيهَا: أَنْ يَقْصُرَهُ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ لَا الْمُبَالَغَةِ وَيُسَمَّى تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ نَحْوُ: {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة} وَقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أَيْ جَعَلْنَا مُبْتَدَأَ كُلِّ حَيٍّ هَذَا الْجِنْسَ الَّذِي هُوَ الْمَاءُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْحَقِيقَةِ ثُبُوتُ الْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ لَا الشَّامِلَةِ لِأَفْرَادِ الْجِنْسِ نَحْوُ الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَةِ لَا يُرِيدُونَ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هَذَا الْجِنْسُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَإِنْ كَانَ يَتَّفِقُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ النِّسَاءِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ بِسَبَبِ عَوَارِضَ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ بَابْشَاذَ: إِنَّ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ لِمَا ثَبَتَ فِي الْأَعْيَانِ وَتَعْرِيفُ الْجِنْسِ لِمَا ثَبَتَ فِي الْأَذْهَانِ لِأَنَّ التَّفْضِيلَ فِي الْجِنْسِ رَاجِعٌ إِلَى الصُّورَتَيْنِ الْكُلِّيَّتَيْنِ فِي الذِّهْنِ إِذْ لَا مَعْنَى لِلتَّفْضِيلِ فِي الصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ وإنما أضاف إلى الذهن لأن تِلْكَ الْحَقِيقَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ لِاشْتِمَالِ الْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ عَلَيْهَا وَلَكِنَّهَا كُلَّهَا مُطَابَقَةٌ لِلصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ الَّتِي لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا تُسَمَّى الْكُلِّيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ.
الرَّابِعُ: أَنْ يُقْصَدَ بِهَا الْحَقِيقَةُ بِاعْتِبَارِ كُلِّيَّةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَتُعْرَفُ بِأَنَّهَا الَّتِي إِذَا نُزِعَتْ حَسُنَ أَنْ يَخْلُفَهَا كُلٌّ وَتُفِيدُ مَعْنَاهَا الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ حَقِيقَةً وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الدَّلَالَةُ عَلَى شُمُولِ الْأَفْرَادِ وَهِيَ الِاسْتِغْرَاقِيَّةُ وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ مَعَ كَوْنِهِ بِلَفْظِ الْفَرْدِ نَحْوُ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وَفِي صِحَّةِ وَصْفِهِ بِالْجَمْعِ نَحْوُ: {أَوِ الطِّفْلِ الذين لم يظهروا}.
قال صاحب ضوء المصباح: سواء أَكَانَ الشُّمُولُ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ كَالسَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ فِعْلِهِ فَيَزُولُ عَنْهُ الِاسْمُ بِزَوَالِ الْفِعْلِ فَهِيَ لِلنَّوْعِ وَمَا دخلت عليه من وَصْفِهِ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ الِاسْمُ أَبَدًا هَذَا كُلُّهُ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى مُفْرَدٍ نَحْوُ: {إِلَى عالم الغيب والشهادة} {وخلق الإنسان ضعيفا} {إن الإنسان لفي خسر} خِلَافًا لِلْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لَا يَعُمُّ وَلَنَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} وَلَيْسَ فِي قوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} دَلَالَةٌ عَلَى الْعُمُومِ كَمَا زَعَمَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا لَمْ يَكُنِ السَّارِقُ عَامًّا فَبِمَاذَا تُقْطَعُ يَدُ كُلِّ سَارِقٍ مِنْ لَدُنْ سُرِقَ رِدَاءُ صَفْوَانَ إِلَى انْقِضَاءِ الْعَالَمِ.
قِيلَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْجِنْسُ أَيْ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِصِفَةِ السَّرِقَةِ تُقْطَعُ يَدُهُ وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى كُلِّ سَارِقٍ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ كَمَا تُوجَدُ مَعَ الْوَاحِدِ تُوجَدُ مَعَ الْمُتَعَدِّدِ أَيْضًا فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى جَمْعٍ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ سَلَبَتْهُ مَعْنَى الْجَمْعِ وَيَصِيرُ لِلْجِنْسِ وَيُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّهِ وَهُوَ الْوَاحِدُ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ عَلَى الْكَلِمَةِ عُمُومَانِ أَوْ مَعْنَى الْجَمْعِ بَاقٍ معها؟
مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الْأَوَّلِ وَقَضِيَّةُ مَذْهَبِنَا الثَّانِي وَلِهَذَا اشْتَرَطُوا ثَلَاثَةً مِنْ كُلِّ صِنْفٍ فِي الزَّكَاةِ إِلَّا الْعَامِلِينَ وَيُلْزِمُ الْحَنَفِيَّةُ أَلَّا يَصِحَّ مِنْهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا يُخَصِّصَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَسَجَدَ الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} وقال {فاقتلوا المشركين} إلى قوله: {حتى يعطوا الجزية} وَقَدْ حَقَّقْتُهُ فِي بَابِ الْعُمُومِ مِنْ بَحْرِ الْأُصُولِ.
ثُمَّ الْأَكْثَرُ فِي نَعْتِهَا وَغَيْرِهَا مُوَافَقَةُ اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الجنب} وَقَوْلِهِ: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}.
وَتَجِيءُ مُوَافِقَةَ مَعْنَى لَا لَفْظًا عَلَى قِلَّةٍ كَقَوْلِهِ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النساء}.
وَأَمَّا التَّنْكِيرُ فَلَهُ أَسْبَابٌ:
الْأَوَّلُ: إِرَادَةُ الْوَحْدَةِ نَحْوُ: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أقصى المدينة يسعى}.
الثَّانِي: إِرَادَةُ النَّوْعِ كَقوله: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ للمتقين لحسن مآب} أَيْ نَوْعٌ مِنَ الذِّكْرِ.
{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}، وَهِيَ التَّعَامِي عَنْ آيَاتِ اللَّهِ الظَّاهِرَةِ لِكُلِّ مبصر ويجوز أن يكون للتعظيم وجريا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ من ماء} {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْرِصُوا عَلَى أَصْلِ الْحَيَاةِ حَتَّى تُعْرَفَ بَلْ عَلَى الِازْدِيَادِ مِنْ نَوْعٍ وَإِنْ كَانَ الزَّائِدُ أَقَلَّ شَيْءٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَيَاةِ.
الثَّالِثُ: التَّعْظِيمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ من الله ورسوله} أَيْ بِحَرْبٍ وَأَيُّ حَرْبٍ.
وَكَقَوْلِهِ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أليم بما كانوا يكذبون} أَيْ لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ.
وَجَعَلَ مِنْهُ السَّكَّاكِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عذاب من الرحمن} وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ خِلَافُهُ وَهَذَا لَمْ يصرح بأن العذاب لا حق بِهِ بَلْ قَالَ: {يَمَسَّكَ} وَذَكَرَ الْخَوْفَ وَذَكَرَ اسْمَ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يَقُلِ الْمُنْتَقِمُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ التَّعْظِيمَ.
وَقَوْلَهُ: {أَنَّ لهم جنات}.
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَمْ يُنْكِرِ الْأَنْهَارَ فِي قوله: {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}؟
قُلْتُ: لَا غَرَضَ فِي عِظَمِ الْأَنْهَارِ وَسَعَتِهَا بخلاف الجنات.
ومنه {سلام على إبراهيم} {وسلام عليه يوم ولد}.
وَإِنَّمَا لَمْ يُنْكِرْ سَلَامَ عِيسَى فِي قوله: {والسلام علي يوم ولدت} فإنه في قصة دعائه الرَّمْزُ إِلَى مَا اشْتُقَّ مِنْهُ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَالسَّلَامُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلَامَةِ وَكُلُّ اسْمٍ نَادَيْتَهُ بِهِ مُتَعَرِّضٌ لِمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ ذَلِكَ الِاسْمُ نَحْوُ يَا غَفُورُ يَا رَحِيمُ.
الرَّابِعُ: التَّكْثِيرُ نَحْوُ إِنَّ لَهُ لَإِبِلًا وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى {إِنَّ لنا لأجرا} أَيْ أَجْرًا وَافِرًا جَزِيلًا لِيُقَابِلَ الْمَأْجُورَ عَنْهُ مِنَ الْغَلَبَةِ عَلَى مِثْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَا يُقَابِلُ الْغَلَبَةَ عَلَيْهِ بِأَجْرٍ إِلَّا وَهُوَ عَدِيمُ النَّظِيرِ فِي الْكَثْرَةِ.
وَقَدْ أَفَادَ التَّكْثِيرَ وَالتَّعْظِيمَ مَعًا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فقد كذبت رسل} أَيْ رُسُلٌ عِظَامٌ ذَوُو عَدَدٍ كَثِيرٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِوَضًا عَنْ قَوْلِهِ فَلَا تَحْزَنَ وَتَصَبَّرْ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْأَمْرِ وَتَكَاثُرِ الْعَدَدِ.
الْخَامِسُ: التَّحْقِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَيِّ شيء خلقه} قالالزمخشري: أَيْ مِنْ شَيْءٍ حَقِيرٍ مَهِينٍ ثُمَّ بَيَّنَهُ بقوله: {من نطفة خلقه}.
وكقوله تعالى: {إن نظن إلا ظنا} أَيْ لَا يُعْبَأُ بِهِ وَإِلَّا لَاتَّبَعُوهُ لِأَنَّ ذلك دينهم {إن يتبعون إلا الظن} السَّادِسُ: التَّقْلِيلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أكبر} أي رضوان قَلِيلٌ مِنْ بِحَارِ رِضْوَانِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ لِأَنَّ رِضَا الْمَوْلَى رَأْسُ كُلِّ سَعَادَةٍ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ للناس} إِذِ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِ أَصْلُ الشِّفَاءَ فِي جُمْلَةِ صُوَرٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْظِيمِ.
وَعَدَّ صَاحِبُ الْكَشَّافِ مِنْهُ {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} أَيْ بَعْضَ اللَّيْلِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّقْلِيلَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْلِيلِ الْجِنْسِ إِلَى فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ لَا بِبَعْضِ فَرْدٍ إِلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ.

.تَنْبِيهٌ:

هَذِهِ الْأُمُورُ إِنَّمَا تُعْلَمُ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالسِّيَاقِ كَمَا فُهِمَ التَّعْظِيمُ فِي قَوْلِهِ تعالى {لأي يوم أجلت} مِنْ قَوْلِهِ: بَعْدَهُ {لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ ما يوم الفصل} وَكَمَا فُهِمَ التَّحْقِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: {مِنْ أَيِّ شيء خلقه} من قوله بعده {من نطفة خلقه}.

.قاعدة فِيمَا إِذَا ذُكِرَ الِاسْمُ مَرَّتَيْنِ:

إِذَا ذُكِرَ الِاسْمُ مَرَّتَيْنِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ أَوْ نَكِرَتَيْنِ أَوِ الثَّانِي مَعْرِفَةٌ وَالْأَوَّلُ نَكِرَةٌ أَوْ عَكْسَهُ.
فَالْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَا مَعْرِفَتَيْنِ وَالثَّانِي فِيهِ هُوَ الْأَوَّلُ غَالِبًا حَمْلًا لَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ الَّذِي هو الأصل في اللام أو الإضافة كـ: (العسر) فِي قوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يسرا} وَلِذَلِكَ وَرَدَ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ قَالَ التَّنُوخِيُّ إِنَّمَا كَانَ مَعَ الْعُسْرِ وَاحِدًا لِأَنَّ اللام طبيعة لَا ثَانِيَ لَهَا بِمَعْنَى أَنَّ الْجِنْسَ هِيَ وَالْكُلِّيُّ لَا يُوصَفُ بِوَحْدَةٍ وَلَا تَعَدُّدٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إنهم لمحضرون}.
وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}.
وَقَوْلُهُ: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تق السيئات}.
وَقَوْلُهُ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظلم اليوم}.
وَقَوْلُهُ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تسجدوا للشمس ولا للقمر}.
وقوله: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين}.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً وَهِيَ مَنْقُوضَةٌ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الإحسان} فَإِنَّهُمَا مَعْرِفَتَانِ وَهُمَا غَيْرَانِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْعَمَلُ وَالثَّانِي الثَّوَابُ.
وقوله تعالى: {أن النفس بالنفس} أي القاتلة والمقتولة.
وقوله: {الحر بالحر}.
وَقَوْلِهِ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}.
وقوله: {إنا خلقنا الْإِنْسَانِ}.
وَقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لما بين يديه}.
وَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكتاب يؤمنون به}.
وَقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تشاء}.
فَالْمُلْكُ الَّذِي يُؤْتِيهِ اللَّهُ لِلْعَبْدِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَفْسَ مُلْكِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَا وَهُمَا مَعْرِفَتَانِ لَكِنْ يَصْدُقُ أَنَّهُ إِيَّاهُ بِاعْتِبَارِ الِاشْتِرَاكِ فِي الِاسْمِ كَمَا صَرَّحَ بِنَحْوِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ من يشاء} فَقَدْ أَعَادَ الضَّمِيرَ فِي الْمُنْفَصِلِ الْمُسْتَغْرَقِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْفَضْلِ.
وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}.
وَقَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نخسف بهم الأرض}.
فَالْأَوَّلُ عَامٌّ وَالثَّانِي خَاصٌّ.
وَقَوْلُهُ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الناس لا يعلمون}.
{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أكثر الناس لا يشكرون}.
وقوله: {قال فالحق والحق أقول}.
فَالْأَوَّلُ نُصِبَ عَلَى الْقَسَمِ وَالثَّانِي نُصِبَ بِـ: (أَقُولُ).
وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نزل}.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فالأولى مُعَرَّفَةٌ بِالضَّمِيرِ وَالثَّانِيَةُ عَامَّةٌ وَالْأُولَى خَاصَّةٌ فَالْأَوَّلُ دَاخِلٌ فِي الثَّانِي.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
وقوله: {رب العالمين رب موسى وهارون}.
وقوله: {أبلغ الأسباب أسباب السماوات}.
وَقَوْلُهُ: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}.
وَقَوْلُهُ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، فَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَا يَكُونُ الْأَوَّلُ خَاصًّا وَالثَّانِي عَامًّا مُتَّفِقَانِ بِالْجِنْسِ.
وَكَذَلِكَ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شيئا}.
ولذلك استبدل بِهَا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ إِلْغَاءُ الظَّنِّ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحياء} بعد قوله: {قالت إحداهما} فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأُولَى هِيَ الثَّانِيَةُ وَأَلَّا تَكُونَ.
وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فتذكر إحداهما الأخرى}.
فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا الثَّانِيَةُ مَفْعُولًا فَالِاسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي عَلَى قَاعِدَةِ الْمَعْرِفَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ فَاعِلًا فَهُمَا وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ وَأَكْثَرُ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّ الْإِعْرَابَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي وَاحِدٍ مِنَ الِاسْمَيْنِ تَعَيَّنَ كَوْنُ الْأَوَّلِ فَاعِلًا خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فما زالت تلك دعواهم}.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ}، فَالْكِتَابُ الْأَوَّلُ مَا كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ كَرَّرَهُ بقوله: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} وَالْكِتَابُ الثَّانِي التَّوْرَاةُ وَالثَّالِثُ جِنْسُ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ مَا هُوَ مِنْ شَيْءٍ فِي كتب الله تعالى وكلامه قاله الرَّاغِبُ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا نَكِرَتَيْنِ فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ وَإِلَّا لَكَانَ الْمُنَاسِبُ هُوَ التَّعْرِيفُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَعْهُودًا سَابِقًا قَالُوا وَالْمَعْنَى فِي هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ النَّكِرَةَ تَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ وَالْمَعْرِفَةَ تَتَنَاوَلُ الْبَعْضَ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ وَالْمَشْهُورُ فِي تَمْثِيلِ هَذَا الْقِسْمِ الْيُسْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ تَنْكِيرَ يُسْرًا لِلتَّعْمِيمِ وَتَعْرِيفَ اليسر للعهد الذي كان عَلَيْهِ يُؤَكِّدُهُ سَبَبُ النُّزُولِ أَوِ الْجِنْسُ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ لِيَكُونَ الْيُسْرُ الثَّانِي مُغَايِرًا لِلْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْعُسْرِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ هُنَا تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى لِتَقْدِيرِهَا فِي النَّفْسِ وَتَمْكِينِهَا مِنَ الْقَلْبِ وَلِأَنَّهَا تَكْرِيرٌ صَرِيحٌ لَهَا وَلَا تَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْيُسْرِ كَمَا لَا يَدُلُّ قَوْلُنَا وَإِنَّ مَعَ زَيْدٍ كِتَابًا إِنَّ مَعَ زَيْدٍ كِتَابًا عَلَى أَنَّ مَعَهُ كِتَابَيْنِ فَالْأَفْصَحُ أَنَّ هَذَا تَأْكِيدٌ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {اللَّهُ الَّذِي خلقكم من ضعف} الْآيَةَ فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْمَذْكُورِ غَيْرُ الْآخَرِ فَالضَّعْفُ الْأَوَّلُ النُّطْفَةُ أَوِ التُّرَابُ وَالثَّانِي الضَّعْفُ الْمَوْجُودُ فِي الطِّفْلِ وَالْجَنِينِ وَالثَّالِثُ فِي الشَّيْخُوخَةِ وَالْقُوَّةُ الْأُولَى الَّتِي تَجْعَلُ لِلطِّفْلِ حَرَكَةً وَهِدَايَةً لِاسْتِدْعَاءِ اللَّبَنِ وَالدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْبُكَاءِ وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: فِي قَوْلِهِ تعالى: {غدوها شهر ورواحها شهر}: الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ لَفْظِ شَهْرٍ الْإِعْلَامُ بِمِقْدَارِ زَمَنِ الْغُدُوِّ وَزَمَنِ الرَّوَاحِ وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَأْتِي مُبَيِّنَةً لِلْمَقَادِيرِ لَا يَحْسُنُ فِيهَا الْإِضْمَارُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ يَأْتِيَ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْخِلَافُ الْأُصُولِيُّ فِي نَحْوِ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ هَلْ يَكُونُ أَمْرَيْنِ بِمَأْمُورَيْنِ وَالثَّانِي تَأْسِيسٌ أولا وَفِيهِ قَوْلَانِ وَقَدْ نَقَضُوا هَذَا الْقِسْمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرض إله} فَإِنَّ فِيهِ نَكِرَتَيْنِ وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَأَجَابَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّكْرِيرِ وَإِنَاطَةِ أَمْرٍ زائد.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُقْصَدِ التَّكْرِيرُ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ قَصْدِ التَّكْرِيرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَكْرِيرُ ذِكْرِ الرَّبِّ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {سبحان رب السماوات والأرض رب العرش}.
وأجاب غيره بأن إله بِمَعْنَى مَعْبُودٍ وَالِاسْمُ الْمُشْتَقُّ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الصِّفَةِ فَأَنْتَ إِذَا قُلْتَ زَيْدٌ ضَارِبُ عَمْرٍو ضَارِبُ بَكْرٍ لَا يُتَخَيَّلُ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَوَّلُ وَإِنْ أَخْبَرَ بِهِمَا عَنْ ذَاتٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ حَقِيقَةً إِنَّمَا هُوَ الْمَضْرُوبَانِ لَا الضَّارِبَانِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ مُخْتَلِفَانِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كبير} الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَحْكِيٌّ مِنْ كَلَامِ السَّائِلِ وَالثَّانِي مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي وُقُوعِهِمَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فباءوا بغضب على غضب}.
وَمِنْهَا: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جاءنا نذير}.
وَمِنْهَا: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ ينزل آية}.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ نَكِرَةً وَالثَّانِي مَعْرِفَةً فَهُوَ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الثَّانِي فِيهِ هُوَ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رسولا فعصى فرعون الرسول}.
وَقَوْلِهِ: {فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كأنها كوكب دري}.
وَقَوْلِهِ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عليهم من سبيل إنما السبيل}.
وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} وَهَذَا مُنْتَقَضٌ.
بِقَوْلِهِ: {لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فابتغوا عند الله الرزق}.
وَقَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صلحا والصلح خير} فَإِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى اسْتِحْبَابِ كُلِّ صُلْحٍ فَالْأَوَّلُ دَاخِلٌ فِي الثَّانِي وَلَيْسَ بِجِنْسِهِ.
وَكَذَلِكَ {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يغني من الحق شيئا}.
وقوله: {ويؤت كل ذي فضل فضله} الْفَضْلُ الْأَوَّلُ الْعَمَلُ وَالثَّانِي الثَّوَابُ.
وَكَذَلِكَ {وَيَزِدْكُمْ قوة إلى قوتكم} وكذلك {يزدادوا إيمانا مع إيمانهم}.
وكذلك {زدناهم عذابا فوق العذاب} تَعْرِيفُهُ أَنَّ الْمَزِيدَ غَيْرُ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ {كتاب أنزلناه إليك}.
وقوله: {وتقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب}.
الرَّابِعُ: عَكْسُهُ فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَرَائِنِ فَتَارَةً تَقُومُ قَرِينَةٌ عَلَى التغاير.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لبثوا غير ساعة}.
وَكَذَلِكَ قوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عليهم كتابا}.
وَقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إسرائيل الكتاب هدى}.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ بِالْهُدَى جَمِيعُ مَا آتَاهُ مِنَ الدِّينِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَالشَّرَائِعِ وَالْهُدَى وَالْإِرْشَادِ.
وَتَارَةً تَقُومُ قَرِينَةٌ عَلَى الِاتِّحَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا}.
وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يستمعون القرآن} إلى قوله: {إنا سمعنا كتابا}.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {بِالْمَعْرُوفِ}.
وقوله أيضا: {من معروف} فَهُوَ مِنْ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ مُعْرِفَةً لِأَنَّ {مِنْ مَعْرُوفٍ} وَإِنْ كَانَ فِي التِّلَاوَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ {بِالْمَعْرُوفِ} فَهُوَ فِي الْإِنْزَالِ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ.